تعتبر النظرية البنائية امتداد للنظرية المعرفية، والتي تطورت بفضل أفكار جان بياجيه بشكل أساسي وبعض العلماء الآخرين.
أن تناول موضوع النظرية البنائية من منظور إبستمولوجي (نظرية المعرفة) يحتم علينا أن ندرك أن النظرية البنائية لم تكن وليدة لحظة ما؛
إنما إستسقت من روافد عدة.
رواد النظرية البنائية
1. ما قدمه الفيلسوف الإيطالي جيامبتسا فيكو ( Giambattisa Vico) عام 1710م في أطروحته عن بناء المعرفة والتي عبر فيها عن فكرة أن عقل الإنسان يبني المعرفة، وأن عقل الإنسان لا يعرف إلا ما يبنيه بنفسه.
2. علماء يركزون على مبدأ الشك أمثال ديكارت(Descartes )والذين عبروا عن شكهم في قدرة الحواس وكفاءة العقل لبلوغ اليقين لمعرفة طبيعة الأشياء.
3. أصحاب المذهب النقدي أمثال كنت(Cant) والذين أكدوا على أن العقل يُنشئ المعرفة وفقاً لإنطباعاته وصوره إلا أن الإنطباعات والصور التي تنطبق في عالم التجريب لا تنطبق في عالم التجريد.
4. أصحاب مذهب الدارونية الذين أوضحوا أن فكرة المواءمة بين الكائن الحي والبيئة يمثل أساساً للتكيف.
5. رواد الفلسفة البراجماتية أمثال جون ديوي (John Dewy) والذين عبروا أن المعرفة آلة وظيفية في خدمة مطالب الحياة.
6. ما قدمه صاحب نظرية الإبستمولوجيا الإرتقائية جان بياجيه (Jean) Piaget والذي أوضح كيفية إكتساب المعرفة، ومع هذه الروافد الستة لا يمكن إهمال دور فون جلاسرسفيلد (Von Glassersfeld )، والذي يعتبر من أهم وأعظم منظري النظرية البنائية، وأفضل من كتب عنها.
معنى النظرية البنائية
وتعددت التعريفات المعبرة عن النظرية البنائية كتعريف العساف : والذي يرى أن النظرية البنائية عملية نشطة ومستمرة وهدفية تتمحور من
خلال الممارسات التعليمية المبنية على المعرفة السابقة للمتعلم قبل مروره بخبرة
التعلم لإعادة النظام المعرفي لديه.
وتعريف شحاته والنجار: والذي يعتبرها نظرية في التعلم والنمو للمتعلم أساسها أن المتعلم
يكون نشطًا في بناء أنماطه التفكيرية نتيجة تفاعل قدراته الفطرية مع الخبرة.
وأما تعريف توبن
(Tobin) : فإنها نظرية معرفية
تشرح كيفية الوصول إلى المعرفة.
وتعريف ليو وتشين (Liu and Chen): والذي يشير إلى أن البنائية نظرية توضح كيفية التعلم والتفكير وأن
المعنى يُبنى من تفاعل المعرفة السابقة مع الواقع.
وتعريف نارايان
ورودريغيز واروجو وشقليه وموس
(Narayan, Rodriguez, Araujo, Shaqliah and Moss, ): على أنها نظرية تعلم تقوم على إفتراض
أن المعرفة تُبنى من تفاعل المتعلم النشط مع تجاربه الفردية والإجتماعية.
ويلاحظ من هذه
التعريفات أن النظرية البنائية: هي نظرية تعلم
تتمحور حول المتعلم، وترتكز على العمليات الحاصلة أثناء التعلم من إحساس وانتباه
وإدراك واستجابة، وتفترض أن بناء المعرفة الجديدة يتم من تفاعل المعرفة السابقة
للمتعلم مع الخبرات التي يتعرض لها بشكل فردي أو إجتماعي حتى يصبح قادرا على
مواجهة المشكلات.
مبادئ النظرية البنائية
تمت الأشارة إلى عدد من المبادئ
الأساسية التي ترتكز عليها النظرية، أهمها:
- المعرفة السابقة: وهي الأساس ومحور الإرتكاز في عملية التعلم،
وذلك كون المتعلم يبني معرفته في ضوء خبراته السابقة.
- وبناء المعرفة ذاتيًا: أي أن المتعلم يبني معنى لما يتعلمه بنفسه
بناءً ذاتيًا، حيث يتشكل المعنى داخل بنيته المعرفية بتفاعل حواسه مع العالم
الخارجي من خلال تزويده بمعلومات تمكنه من ربط المعلومات الجديدة لديه وبشكل
يتفق مع المعنى العلمي الصحيح.
- والتغير في البنية المعرفية: ويقصد
به عند دخول معلومات جديدة وأفكار ومعارف لابد أن يعاد تنظيم الأفكار والخبرات الموجودة بها.
- ومواجهة الموقف: وهو
أن التعلم يحدث على أفضل وجه عندما يواجه الفرد المتعلم مشكلة أو موقفاً أو
مهمة حقيقية واقعية.
- والتفاوض الإجتماعي: أن
المتعلم لا يبني معرفته بمعزل عن الآخرين، بل يحتاج لهم من أجل مساعدته في
بناء تعلمه، وفي تغيير بنيته المعرفية، وفي التعرض للمواقف أو المهمات؛
وبالتالي يحتاج إلى التواصل وبناء العلاقات مع أقرانه ومع معلميه ومع أفراد
المجتمع الذي يعيش فيه.
مرتكزات النظرية البنائية
تقوم النظرية البنائية على عدة مرتكزات، وهي:
- أن المعنى يُبنى ذاتيًا من قبل الجهاز
المعرفي للمتعلم، ولا يتم نقله من المعلم إلى المتعلم؛ فالمعنى يتشكل داخل
عقل المتعلم كنتيجة لتفاعل حواسه مع العالم الخارجي.
- أن البُنى المعرفية المتكونة تواجه بمقاومة
كبيرة، كون أن المتعلم يتمسك بما لديه من معرفة حتى وإن كانت خاطئة أو ناقصة؛
لأنها تقدم تفسيرات تبدو مقنعة له،ويستدعي الأمر تقديم المزيد من الخبرات
كالتجارب والأنشطة التي تؤكد خلاف ما يظنه المتعلم وتبين الخطأ في فهمه.
- أن
عملية تشكيل المعاني هي عملية نفسية تتطلب جهداً عقلياً، حيث يصبح المتعلم في
حيرة فكرية عندما يتعرض لخبرات لا تتوافق مع بنائه المعرفي، فيضطرب إتزانه
المعرفي، ويكون أمام خيارات عدة، وهي:
أولها: إنكار الخبرة
الجديدة ويدعي عدم صحتها، ويسمى هذا الخيار البنية المعرفية المتوافرة، وهنا لا
يحدث أي تعلم جديد.
أما الخيار الثاني: يستوعب الخبرة
الجديدة ويتواءم معها، ويسمى هذا الخيار إعادة تشكيل البناء المعرفي.
والخيار الأخير: الإنسحاب من الموقف
ولا يهتم المتعلم بما يتعرض إليه من خبرات ويسمى هذا الخيار اللامبالاة، وفيه
إنخفاض لمستوى دافعية المتعلم.
إفتراضات النظرية البنائية
وتقوم النظرية البنائية على عدة إفتراضات تفرد بها الفكر البنائي عن
غيره، وهذه الإفتراضات هي نقاط إتفق عليها منظرو النظرية، ويمكن إجمالها كالآتي:
- أن المعرفة والتعلم عمليتي بناء، فالمتعلم يبنى تراكيبه المعرفية، وأن المعرفة تقوم على الحيز
الموجودة به من خلال نوعية الأنشطة والتعليمية ونوعية البيئة.
- فالتعلم لابد أن يحدث في نطاق وثيق الصلة بالخبرة الشخصية.
- وأن التعلم يكون عن طريق الوسائط التي يتم من خلالها النقل.
- وتعتبر اللغة وسيلة سامية بالإضافة إلى الأرقام والرموز والتقنيات
المساعدة.
- وأن التعلم نشاط ذو حوار إجتماعي، ويتم ذلك عن طريق اللغة بإعتبارها
أهم وسيلة وعن طريقها يتم الحوار والمناقشة والتفاوض الإجتماعي.
وركز البعض على الصوت
كوسيلة تساعد على تغيير المعاني وإضافتها، وأن معرفة كيف نعرف تمثل قمة الإنجاز
البشري، ولا يمكن وضع نموذج تدريسي لا يؤكد على أهمية الإدراك الذاتي للتعلم أو
المعرفة، وتشجيع المتعلمين على تحليل الأشياء التي تتحكم في سلوكهم وإكتشافها حتى
يصبحوا معتمدين على أنفسهم.
البنائية المعرفية
انبثق من النظرية البنائية منحيان هما:
1.
منحى البنائية المعرفية.
2.
منحى البنائية الإجتماعية.
فنجد أن جان بياجيه (Jean Piaget) رائد البنائية المعرفية، والذي ركز
على مفهوم النمو المعرفي الذي يرى أنه نتيجة طبيعية للتفاعل بين المتعلم وبيئته
ضمن عوامل الخبرة والنضج، وأن مفهوم التعلم يشير إلى كسب المعلومات والخبرات.
وترتكز البنائية المعرفية على
المدركات التي يتم بناؤها ذاتياً من خلال إجراءات معرفية قائمة على تحليل وتفسير
الخبرات الفردية، وإعتبر أن التعلم المعرفي عملية تنظيم ذاتية للتراكيب الذاتية
للمتعلم، والتي تستهدف مساعدته على التكيف؛ بمعنى أن المتعلم يسعى للتعلم من أجل
التكيف مع الضغوط المعرفية، وهذه الضغوط تؤدي إلى حالة من التناقضات أو الإضطرابات
في التراكيب المعرفية لدى المتعلم.
ومن ثم محاولة المتعلم إجراء التنظيم
الذاتي، والتي تشمل عملية التمثل (التغير الخارجي): وهي
العملية المسؤولة عن إستقبال المعلومات من البيئة ووضعها في تراكيب معرفية،
وكذلك عمل المواءمة (التغير
الداخلي): وهي العملية العقلية المسؤولة عن تعديل البنية المعرفية بما يتناسب
مع ما يستجد من مؤثرات وفتح ملفات أو بطاقات داخل خلايا الدماغ لكل مثير جديد وهو
ما يُعرف بالخلق،
إن إستخدام عمليتي التمثل
والمواءمة يحقق للمتعلم حالة من التوازن المعرفي والذي يؤدي إلى تحقيق التكيف.
البنائية الاجتماعية
أما البنائية الإجتماعية، والتي تركز
على التفاعل مع المعلم والأقران كإجراءات فعالة لحدوث التعلم، والتي ترى أن النمو
العقلي يبدأ من الخارج متجها إلى الداخل، فالمتعلمون يشاهدون التفاعل بين الناس من
حولهم، ويتفاعلون هم مع الناس، ويستفيدون من هذه التفاعلات لزيادة نموهم.
ومن بين
أهم القواعد التي قامت عليها البنائية الإجتماعية هي أن التعلم يتم من خلال
الإتصال بالآخرين والتفاعل معهم، وهذا الإتصال والتفاعل مهم بقدر أهمية النمو الذي
ركز عليه بياجيه، وتعتبر اللغة عنصراً في غاية الأهمية يتم من خلاله الإتصال
والتواصل، وتعتبر عملية التفاوض الإجتماعي الأساس في تكوين التعميمات.
النظرية البنائية وتطبيقاتها التربوية
لقد أشتق من النظرية البنائية ما
يُعرف بالتعلم البنائي: وهو الجانب التطبيقي للنظرية البنائية، ويؤكد على
أهمية أن يكون التعلم ذا معنى وأن المتعلم هو محور عملية التعليم.
ويُعرف
التعلم البنائي:
" بأنه طريقة لمساعدة
المتعلمين على بناء مفاهيمهم ومعارفهم العلمية، وتتم على خمس مراحل وهي:
1.
الإكتشاف.
2.
والشرح.
3.
والتفسير.
4.
والتوسع.
5.
والتقويم.
ويُعرف أيضًا: بأنه أسلوب من أساليب التدريس التي
تركز على إحداث التفاعل النشط بين المعلم والمتعلم بهدف بناء المتعلم للمعرفة
بنفسه، ويؤكد على المشاركة النشطة للمتعلم عند إستقبال الخبرة الجديدة.
التي لا تتفق مع الفهم الحاضر؛ وبالتالي يتجاوز عملية عدم التوازن
ويعمل على التكيف مع المعارف الجديدة من خلال بناء مخططات معرفية جديدة متضمنة
للخبرة الجديدة.
إن النظرة البنائية للتعلم تؤكد على
ضرورة بناء المتعلمين لمعانيهم الخاصة المتعلقة بأفكارهم حول كيفية عمل العالم من
حولهم؛ إذ إن نوعًا واحداً من الخبرة الحسية غير كاف لتكوين تعلم له معنى، وأن
الخبرة تتطلب إثارة لجميع الحواس عند المتعلم إذا أراد أن يحصل على تعلم ذو معنى.
وأن المثل الصيني يحمل أهداف البنائية: (أسمع فأنسى، أرى فأتذكر، أعمل فأفهم).
وتؤكد البنائية على ضرورة ربط المتعلمين التعلم اللاحق بالتعلم
السابق، وأن العنصر المفتاحي للنظرية البنائية يتمثل بأن الناس يتعلمون من خلال
البناء الفعّال لمعرفتهم وبمقارنة معلوماتهم الجديدة مع فهمهم القديم والعمل من
خلال كل هذه الأشياء للوصول إلى فهم جديد.
وحتى يتم تبني التعلم وفقاً للنظرية
البنائية، لابد من مميزات وخصائص للتعلم البنائي يمكن إيجازها كما يلي: في التعلم البنائي يتم تقديم وجهات
نظر وتعريفات متعددة للمفاهيم والمحتوى، والمتعلم يستنتج الأهداف بالتفاوض مع
المعلم أو النظام التعليمي.
دور المعلم في النظرية البنائية
يؤدي المعلمون دور المرشدين والمدربين
والمراقبين والميسرين، ويتم توفير الأنشطة والفرص والأدوات والبيئات لتشجيع ما
وراء المعرفة من تحليل ذاتي وتنظيم وتأمل ووعي.
وللمتعلم
دور مركزي في التوسط والتحكم في التعلم، ويتم بناء المعرفة بشكل فردي ومن خلال مفاوضات
إجتماعية وتعاون وخبرة، ويتم التأكيد على مهارات حل المشكلات والتفكير العليا
والفهم العميق، والإستشكاف نهج مفضل لتشجيع المتعلمين على البحث عن المعرفة.
ويتم تزويد المتعلمين بفرصة التعلم المهني الذي يوجد فيه زيادة تعقيد
المهام والمهارات وإكتساب المعرفة، ويفضل التعلم التعاوني من أجل تعريض المتعلم
للمناقشة والحوار، ويتم تسهيل السقالات والمنظمات التمهيدية والمتقدمة لمساعدة
المتعلمين على أداء ما وراء حدود قدراتهم بإعتبارها وسائط تساعد في الانتقال إلى
المعرفة الجديدة.
وحتى يتسنى الإنتقال من البيئة
التقليدية إلى البيئة البنائية يستدعي ذلك تغييرًا في محاور البيئة التعليمية من
المنهاج إلى الأنشطة التعليمية وإحداث تغيير وتطوير في دور كل من المعلم
والمتعلم.
فالمنهاج يُقدَم من الكل إلى الجزء
ويؤكد على المفاهيم الكبيرة، ومستجيبا لأسئلة المتعلمين وإهتماماتهم ويعتمد على
المصادر الأولية للمعطيات والمواد التي يتم التعامل معها، وأما المعلمون فيتصرفون
بطريقة تفاعلية ويجعلون التعلم ملائماً للمتعلمين، ويبحثون المعرفة السابقة
للمتعلمين من أجل إستيعاب مفاهيمهم الحالية وإستخدامها في دروس لاحقة،
وأما المتعلمون فلديهم القدرة على العمل
في مجموعات ويمتازون بالتفاعل والتفكير مما يجعلهم قادرين على تشكيل تصورات واضحة
عن البيئة المحيطة بهم، أما الأنشطة المتمثلة بطرق وإستراتيجيات التدريس فهي نماذج
تدريسية تستند إلى النظرية البنائية.
المحتوى القائم على النظرية البنائية
المحتوى الدراسي في ضوء النظرية
البنائية أن يأخذ أشكالاً وصوراً على شكل مهام ومشكلات حقيقية ذات صلة بحياة
المتعلمين ودافعيتهم وبظواهر طبيعية مثيرة لفضولهم العلمي.
وأن تقدم
هذه المهام والمشكلات من غير تعقيد يحبط المتعلمين ويجعلهم يتراجعون عن الإهتمام
وإستكمال مهمات التعلم، وأن تمتاز المهام والمشكلات المقدمة بالمرونة من حيث
قابليتها للحل والتوسع، وأن تراعي الخصائص النمائية للمتعلمين، وتفتح مجالات
لتوليد الأفكار والأسئلة البحثية لإستقصائها.
وبما أن الميول والفضول العلمي
والرغبة تساعد المتعلم في الإستمرار في البحث والإستقصاء وحل المشكلات وإتمام
المهام التعليمية، فلا بد أن يُقدم المحتوى بأسلوب مشوق وممتع، وتقدم فيه مشاريع
وأنشطة من إختيار المتعلم، وتوجيهه إلى المزيد من البحث عن المعلومات ومن مصادر
مختلفة.
وعلى المحتوى أن يراعي قيام
المتعلمين بأعمال ميدانية تغذّي الجوانب الواجدانية والمهارية لديهم، ومع تقديم
المهام في بيئة إجتماعية تساعده على التواصل والمناقشة؛ وبالتالي يتحسن الفهم
والشعور بمتعة العلوم والتخلص من حالة إنهاء المحتوى أو تغطيته.
وبالإعتماد على النظرية البنائية قدم
المتخصصون نماذج تدريسية وإستراتيجيات تدريسية تساعد المعلم على تنفيذ الأدوار
المنوطة به بكفاءة وفاعلية وإقتدار، وتوفر للمتعلم المزيد من فرص التعلم النشط،
والإندماج الحقيقي، والمسؤولية الذاتية عن تعلمه، من خلال أدوار ومهام حقيقية.